الأول: أن هذه التدريبات العسكرية التي يلحق بها مشقة إن لم يكن بها حاجة حقيقية لفعلها في شهر رمضان، فإنه يجب تأخيرها إلى ما بعده.
الثاني: أنه على القائمين على القوات العسكرية إذا دخل شهر الصوم عدم تكليف الجنود بأعمال شاقة غير ضرورية، والابتعاد عن خشونة الحياة؛ كي يتحقق المقصد من شرعية ركن الصيام.
المسألة الثانية: حكم فطر الجندي المرابط على الثغور أو الحدود:
إن للجندي المرابط على الثغور أو الحدود حالتين:
الحالة الأولى: أن يقيم بنية الإقامة المطلقة في هذه الثغور أو الحدود، كأن يتخذ داراً ومنزلاً فيها ونحو ذلك من صور الإقامة المطلقة، فهذا حكمه حكم المقيم فيلزمه الصوم، وذلك لقوله تعالى:"فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ"(17)، قال ابن كثير رحمه الله:"هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر، أي كان مقيماً في البلد حين دخل شهر رمضان وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة"(18)، وقال ابن سعدي رحمه الله:" هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر"(19).
لكن هذا الحكم يثبت للجندي في الأحوال العادية والطبيعية كأحوال المراقبة والحراسة وحماية الحدود من الاختراق ونحو ذلك، أما في حال القتال أو المناورة، أو التأهب والاستعداد للقتال، فهذا هو ما سنبحثه في المسألة الثانية بإذن الله.
الحالة الثانية: أن يكون ملازماً للثغور وليس مستوطناً لها بل منزله في المخيمات العسكرية، وليس له نية الإقامة المطلقة، فهذا حكمه حكم المسافر له الترخص برخص السفر والتي منها الفطر في السفر، وذلك لأنه وجد فيه معنى السفر، وعليه قضاء ما أفطره من أيام رمضان إن أقام ورجع إلى وطنه، وذلك لما رواه أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنهما قالا: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصوم الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض (20).
المسألة الثالثة:حكم الفطر لأجل الجهاد والقتال:
إذا كان الجندي في سفر غزو وجهاد فإنه يخير بين الفطر والإمساك كما تقرر في المسألة السابقة، بل إذا كان مع الصوم نوع مشقة أو ضرر، أو كان في الفطر قوة على الجهاد فالفطر هو الأفضل بل المتعين، وذلك كما حصل للصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فتح مكة؛ فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ذلك بقوله: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام ، قال: فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم "، فكانت رخصة، فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر، فقال:"إنكم مصبحوا عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا" وكانت عزمة، فأفطرنا(21).
قال ابن القيم رحمه الله:"وسافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فصام وأفطر، وخيّر الصحابة بين الأمرين، وكان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من عدوهم ليتقووا على قتاله"(22)، وقد ذكر النووي رحمه الله أن الفطر أولى لمن كان في سفر حج أو غزو(23).
أما إذا كان الجندي في حال إقامة والعدو قد هاجمهم ونزل بديارهم وأحاط بهم أو احتل ديارهم – نسأل الله العافية والسلامة – وهم في حال مقاومة، وكان الصوم فيه مشقة، وكان في الفطر تقوٍّ على المنازلة والجهاد، فإنه والحالة هذه يجوز لهم الفطر، وقد يكون هو الأولى، فقد أفتى بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حينما نزل التتار في دمشق حيث قال البعلي رحمه الله:"وأفتى أبو العباس لما نزل العدو دمشق في رمضان بالفطر في رمضان للتقوي على جهاد العدو ودفعه، وقال: هو أولى من الفطر للسفر"(24)، وجاء في التقريرات على حاشية ابن عابدين:"الغازي إذا كان يعلم يقيناً أنه يقاتل العدو في رمضان ويخاف الضعف إن لم يفطر أفطر"(25).
وقال الحجاوي رحمه الله:"ومن قاتل عدواً أو أحاط العدو ببلده والصوم يضعفه ساغ له الفطر بدون سفر نصاً [أي عن الإمام أحمد]" (26).
وقد أورد ابن القيم رحمه الله في هذه المسألة كلاماً نفيساً مؤصلاً ومدللاً عقب حديثه عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالفطر للتقوي على القتال، حيث يقول:"فلو اتفق مثل هذا في الحضر وكان في الفطر قوة لهم على لقاء عدوهم، فهل لهم الفطر؟ فيه قولان، أصحهما دليلاً: أن لهم ذلك وهو اختيار ابن تيمية، وقد أفتى العساكر الإسلامية لما لقوا العدو بظاهر دمشق، ولا ريب أن الفطر لذلك أولى من الفطر لمجرد السفر، بل إباحة الفطر للمسافر تنبيه على إباحته في هذه الحالة، فإنها أحق بجوازه، لأن القوة هناك تختص بالمسافر، والقوة هنا له وللمسلمين، ولأن مشقة الجهاد أعظم من مشقة السفر، ولأن الله تعالى قال:"وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ "(27)، والفطر عند اللقاء من أعظم أسباب القوة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد فسر القوة بالرمي(28)، وهو لا يتم ولا يحصل به مقصوده إلا بما يقوي ويعين عليه من الفطر والغذاء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة لما دنوا من عدوهم:( إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم)، وكانت رخصة، ثم نزلوا منزلاً آخر فقال:( إنكم مصبحوا عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا) فكانت عزمة فأفطرنا(29)، فعلل بدنوهم من عدوهم واحتياجهم إلى القوة التي يلقون بها العدو، وهذا سبب آخر غير السفر، والسفر مستقل بنفسه، ولم يذكره في تعليله، ولا أشار إليه، فالتعليل به اعتباراً لما ألغاه الشارع في هذا الفطر الخاص، وإلغاء وصف القوة التي يقاوم بها العدو، واعتبار السفر المجرد إلغاء لما اعتبره الشارع وعلل به.
وبالجملة فتنبيه الشارع وحكمته، يقتضي أن الفطر لأجل الجهاد أولى منه لمجرد السفر، فكيف وقد أشار إلى العلة ونبه عليها وصرح بحكمها وعزم عليهم بأن يفطروا لأجلها"(30).
المسألة الرابعة: حكم فطر الطيار الحربي وحكم إلزامه به(31)
من المسائل المستجدة هذه المسألة؛ وهي أن قيادة الطائرة الحربية تتطلب جهداً كبيراً من قبل الطيار في تأدية أعمال الطيران، لأن الرحلة التي يقوم بها تصل إلى ساعتين، وفي خلال هذه الفترة يقوم الطيار بعمل حركات جوية على ارتفاع عالٍ يصل إلى حوالي 45 ألف قدم، وطيرانه في هذا الارتفاع العالي يعني تعرضه للضغط الجوي العالي، وهذا قد يؤدي إلى أن يتعرض الطيار إلى الخطر إذا لم يحصل على الغذاء الكافي، وذلك حسب توصيات الأطباء، ويذكر الأطباء أيضاً أنه لا يمكنه الطيران بعد الإمساك بأكثر من ثلاث ساعات، وجدول الطيران اليومي لعموم الطيارين يستغرق سبع ساعات تقريباً.
وبهذا التصوير فإن صوم قائدي الطائرات الحربية يؤدي بدوره إلى إرباك التدريب في القوات الجوية، أو إلى التأثير على كفاءة الطيار في حالة الاستعداد للطيران الفوري، كما أن القوات الجوية ليس بإمكانها إيقاف الطيران خلال شهر رمضان، وذلك لأسباب من أهمها:
1- متطلبات الدفاع الجوي عن المملكة العربية السعودية تحتم مواصلة التدريبات بدون توقف؛ نظراً لكون هذه القوات في حالة استعداد دائم، ولما تمر به المنطقة من أحداث وصراعات لا تخفى.
2- أن توقف الطيران لمدة شهر كامل يؤثر تأثيراً مباشراً على كفاءة الطيارين، وهذا يعني إعادة تقييم هؤلاء الطيارين بعد انقطاعهم عن الطيران لهذه الفترة.
مع العلم أنه وقعت كوارث لبعض أولئك الطيارين الصائمين الذين يقومون بمهام أعمالهم الشاقة التي لا مندوحة عنها وتعتبر قتالية، فأودى ذلك بحياة بعضهم وسقوط طائراتهم، وأضرار أخرى فادحة في أبدانهم وعقولهم وفي الممتلكات(32).
وبناءً على ما تقدم من عرض فإن الحديث سيكون في فرعين:
الفرع الأول: حكم فطر الطيار الحربي:
للطيار الحربي حالتان، وذلك بناءً على ما تم تقريره:
الحالة الأولى: أن يتجاوز طيرانه حدود البلد بمسافة هي المعتبرة في حد السفر، كأن يكون في منطقة التدريب التي لا تقل عن نحو 400 كيلو متر عن القاعدة الجوية(33)، فإنه والحالة هذه يعتبر مسافراً، والمسافر يجوز أن يترخص برخص السفر والتي منها الفطر في رمضان لقوله تعالى:"وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر "(34)، فيرخص له حينئذ بالفطر، وذلك لوجود وصف السفر في حقه وإن رجع في نفس اليوم(35)، وإن دعت الضرورة إلى أن يفطر قبل الإقلاع فلا بأس(36)، وكذا يجوز له أن يترخص برخص السفر الأخرى نحو: القصر والمسح وغيرهما من الرخص(37).
الحالة الثانية: أن يكون الطيران دون المسافة المعتبرة في حد السفر، أو يكون في جو البلد وفوقها، ففي الحالة هذه إن كان الطيران فيه حفظاً لمصالح البلد وحمايتها من الأعداء كالقواعد الجوية التي على الحدود، أو طيران سلاح الحدود ونحو ذلك، أو كان التدريب ضرورياً في نهار رمضان ولا يمكن تعديل زمن التدريب إلى وقت آخر، وكان الضرر محققاً أو غالب الوقوع.
فإنه قد عرضت هذه المسألة على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثانية والعشرين، فرأى المجلس بالإجماع في الحالة هذه جواز الفطر للطيار بالفعل أو الطيار المرابط دفعاً للضرر ورفعاً للحرج ووجوب القضاء عليه في وقت آخر(38).
أما إذا كان الطيران اعتياديًّا، ولا يترتب على تركه مفاسد عظيمة أو ضرر، فيرى الباحث – والعلم عند الله – أنه لا بد من الصوم حينئذ، وذلك لعدة أمور منها:
1- أنه في الحالة هذه لا يعتبر الطيار مسافراً.
2- عدم الحاجة الضرورية لمثل هذه الرحلات.
3- إمكانية القيام بهذه الأعمال بعد الإفطار، أو في باقي شهور السنة، أو بعد الإمساك مباشرة(39).
الفرع الثاني: حكم إلزام الطيار الحربي بالفطر:
بعد النظر فيما تقرر سابقاً؛ فإن أنظمة وتعليمات الطيران الحربي تنص على تناول الأكل والشرب قبل الإقلاع بوقت معلوم(40)، لهذا فإن القائمين على شئون الطيران والتدريب يلزمون الطيارين بالأكل والشرب قبل الإقلاع، وذلك حفاظاً على سلامتهم وصحتهم وعلى الأموال و الممتلكات وعلى من يرافقهم.
فالسؤال: ما حكم إلزام الطيارين بالفطر قبل الإقلاع أو بعده، وكذا ما حكم طاعتهم في ذلك؟
الجواب على هذا فيه تفصيل:
إذا كان الطيران اعتيادياً، ولا يترتب على تركه مفاسد متعلقة بحفظ الأمة، أو يمكن تأجيله إلى ما بعد الإفطار، أو بإمكانية جعل الطيران عقب الإمساك مباشرة، أو يكون الضرر الناتج متوهماً وليس حقيقيًّا، فإنه وفي الحالة هذه، لا يشرع للقائمين على شئون الطيار أمر الطيارين بالفطر، وذلك لعدم وجود العذر الذي يرخص من أجله الفطر في رمضان، ما لم تكن المسافة التي سيصل إليها الطيار هي المسافة المعتبرة في السفر، فإنه يرخص له حينئذ بالفطر؛ وذلك لوجود الرخصة للمسافر.
أما إذا كان الطيران ضروريًّا ويتعلق بتركه مفاسد كما تقرر في بداية المبحث ولا يمكن تأجيله، وكان الطيران في مسافة دون المسافة المعتبرة في السفر، فإنه وفي الحالة هذه يجوز للقائمين على شئون الطيران إلزام الطيارين بالفطر في رمضان، وذلك بقيدين:
الأول: أن يكون الطيران ضروريًّا في نهار رمضان، بحيث إذا ترك ترتب عليه مفاسد عظيمة، مثل اختراق الحدود من قبل الأعداء ونحو ذلك.
الثاني: تحقق وجود الضرر على الطيار من الصوم أثناء الطيران، أو غلبة الظن في ذلك.
وكذا يلزم الطيار طاعة رئيسه في ذلك(41)، وذلك لأن دفع المفاسد المترتبة على عدم الفطر في رمضان للطيار أولى من جلب المصالح المترتبة على الصوم للطيار، ولما فيه من حفظ للنفوس من الهلاك، والأموال من التلف، وكذا لما فيه من مصلحة حفظ الدين وبيضة المسلمين من تسلط الأعداء وهتك الحرمات، فمقصد حفظ الدين العام للأمة أولى بالمراعاة من مقصد حفظ الدين للطيار.
المسألة الخامسة: حكم الصوم والفطر للجندي المصاب بدوار البحر، وفيه فرعان:
الفرع الأول: حكم فطر الجندي المصاب بدوار البحر:
دوار البحر حالة مرضية تصيب العاملين في البحر وهو عبارة عن: حالة تنتج عن اضطرابات في جهاز التوازن بالأذن الداخلـية، وسببه وصول رسالتين حسيتين متناقضتين إلى الدماغ، الأولى قادمة من المستقبلات الحسية الموجودة في الأذن الداخلية، والثانية قادمة من المستقبلات الحسية الموجودة في عيني الشخص، ونتيجة لتناقض هاتين الرسالتين عن وضعية جسم الإنسان؛ يؤدي ذلك إلى تحفيز مستقبلات( الهيستامين) الموجودة في مركز الدماغ، والتي لها علاقة بشعور الإنسان بالدوار والرغبة في القيء(42).
والجندي المصاب بهذه الحالة يظهر عليه أعراض منها:
1- الشعور بالتعب والإرهاق.
2- الدوار والدوخة، إذ يرى المصاب كل شيء من حوله يدور ويعجز عن الوقوف والمشي، ويسقط إلى الأرض حال الوقوف في أغلب الأحيان.
3- الغثيان والتقيؤ.
4- الشحوب واصفرار لون الوجه.
5- التعرق.
فهل(دوار البحر) يعتبر عذراً مبيحاً للفطر في رمضان لمن أصيب به؛ لا سيما وأن علاج هذا المرض يكون: بتناول بعض الأدوية الطبية، والأكل الخفيف وغير ذلك من الوسائل.
الذي يظهر – والعلم عند الله – أن دوار البحر يعتبر حالة مرضية، وذلك مبني على سؤال بعض الأطباء المختصين، والنظر في الأعراض والآثار التي تظهر على المصاب به.
وبناءً على ذلك فإن الله عز وجل جعل المرض من الرخص التي تبيح الفطر في رمضان؛ حيث قال الله سبحانه وتعالى:"وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر "(43)، قال ابن سعدي رحمه الله:" وذلك للمشقة في الغالب، رخص الله لهما في الفطر"(44).
وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن المرض عذر مبيح للفطر في رمضان، ولكن على خلاف فيما بينهم في المرض المعتبر الذي يبيح الفطر.
فذهب الحنفية والمالكية إلى اشتراط المشقة في المرض(45)، وذهب الشافعية أنه إذا لحقه ضرر من الصوم يشق احتماله فهو المبيح للفطر(46)، وذهب الحنابلة إلى أنه إذا خيف من الصوم زيادة المرض أو إبطاء برئه أبيح له الفطر(47)، وذهب ابن حزم ومن وافقه إلى أن من أطلق عليه اسم المرض ففرضه الفطر(48). والذي يراه الباحث – والله أعلم – أن أي مرض يكون فيه مشقة على الصائم أو ضرر، أو تأخر برء ونحو ذلك؛ فيرخص فيه بالفطر لدلالة الآية على ذلك.
قال القرطبي رحمه الله:" للمريض حالتان:
إحداهما: ألا يطيق الصوم بحال؛ فعليه الفطر واجب.
والثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة؛ فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل... وقال جمهور العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه، أو يخاف تماديه، أو يخاف تزيده صح له الفطر"(49).
فالجندي المصاب بدوار البحر إذا لحقته مشقة من هذا المرض، واحتاج إلى أخذ الدواء لدفعه ورفعه، أو تناول الأطعمة، فإنه يرخص له ويباح الفطر، بل إذا كان في الصوم ضرر كان الفطر في حقه مستحب(50)، وقال بعض العلماء بالوجوب(51) لقوله تعالى: "وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا "(52).
الفرع الثاني: حكم صوم الجندي المصاب بدوار البحر:
وصورة هذا الفرع أنه إذا كانت إصابة الجندي بدوار البحر إصابة يمكن أن يصوم معها وأن يتحمل هذا العارض، ولكن ظهر منه أثر من آثار الإصابة بهذا المرض وهو غلبة القيء، أو أنه احتاج إلى التقيؤ لتخفيف بعض أعراض المرض؛ فما حكم ذلك؟
الجواب على هذا مبني على حكم من ذرعه القيء أو تعمد إخراجه وهو صائم.
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من ذرعه القيء وهو صائم لا شيء عليه ولا يجب عليه القضاء، وأن من تعمد إخراجه فقد أفطر ويجب عليه القضاء(53)، بل وحكى الإجماع على هذا ابن المنذر رحمه الله(54)، مستدلين بحديث أبي هريرة رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقض "(55).
فيتضح من هذا أن الجندي المصاب بدوار البحر إذا ذرعه القيء وغلبه من غير اختياره وهو صائم لا شيء عليه ولا قضاء، أما إذا احتاج إلى القيء لتخفيف أعراض المرض ونحو ذلك؛ فإن عليه القضاء – والله أعلم –.
المسألة السادسة: حكم استعمال الأكسجين للجندي الصائم:
يستخدم الجندي اسطوانة غاز الأكسجين بوضع قناع على أنفه وفمه في حالات تلوث الهواء في الحرب الكيماوية والحيوية ونحوها، و كذا في حالة الحرائق يستخدمه منسوبو الدفاع المدني لإنقاذ الناس الذين هم داخل المكان، وكذا يستخدمه قائد الطائرة في حالات ارتفاع الطائرة إلى درجات عالية، ويستخدمه الغواص تحت الماء.
وغاز الأكسجين و الذي يسمى غاز التنفس هو: هواء مضغوط نقي لا يحتوي على مواد عالقة أو مغذية، ويذهب معظمه إلى الجهاز التنفسي(56)، فيؤخذ هذا الغاز مباشرة(أكسجين جاف)، أو قد يمر على محتوى بلاستيكي يحتوي على ماء نقي وذلك لترطيب الممرات والشعب الهوائية كي لا يصيبها الجفاف، ويستعمل هذا الغاز بمقادير محددة وحسب الحاجة.
وبهذا التصور نتساءل: هل استعمال الجندي في الحالات السابقة لما يسمى(بغاز الأكسجين) له أثر في الصيام من حيث كونه مفطراً أم لا؟
الذي يظهر – والعلم عند الله – أن استخدام (غاز الأكسجين) لا يعتبر من المفطرات، وذلك لأنه مثل تنفس الهواء الطبيعي إذ هو بدل عنه(57).
المسألة السابعة: حكم صيام الغواص:
طبيعة عمل الجندي الغواص؛ تتطلب منه الغوص تحت الماء؛ وذلك لزراعة الألغام أو لإزالتها، أو لأعمال البحث والإنقاذ ونحو ذلك، فهل يكون الغطس في الماء موجباً للإفطار، أم لا؟
الجواب على ذلك فيه تفصيل؛ وسببه دخول الماء إلى جوف الغواص من بعض منافذه، فيكون الجواب على النحو التالي:
الحالة الأولى: أن يرتدي الغواص ملابس الغوص الخاصة به، والتي تمنع وصول الماء إلى جسده، وكذا لبسه لقناع الوجه الذي به ما يتعلق بمكونات غاز الأكسجين للتنفس و زجاجة أمام العينين للرؤية، مع وضع سدادات داخل الأذنين تمنع من دخول الماء، ففي الحالة هذه لا يدخل إلى جوف وجسد الغواص من الماء شيء، فالذي يظهر – والله أعلم – أن غطس الغواص حينئذ في الماء لا يكون موجباً للإفطار، وصومه صحيح، وذلك لعدم وجود شيء من مفطرات الصيام ومفسداته.
الحالة الثانية: وهي ألا يرتدي الغواص شيئاً من ملابس الغوص، فيدخل حينئذ الماء إلى جسده عن طريق بعض المنافذ كالأذنين أو الدبر أو الفم ونحو ذلك.
فالحكم في هذه الحالة لا يتأتى إلا ببيان الأمور المفطرة، أو أسباب الفطر، وذلك لأن الحكم ينبني على معرفتها:
دل الشارع على أن الأكل والشرب والجماع وخروج دم الحيض والنفاس من مفسدات الصيام، وذلك لقوله تعالى:"فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ"(58)، قال ابن العربي رحمه الله في وجه دلالة الآية:" بين بذلك محظورات الصيام وهي الأكل والشرب والجماع"(59)، وأما خروج دم الحيض والنفاس فقد دلت عليه السنة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" (60)، قال ابن رجب رحمه الله في دلالته:" وقد أجمعت الأمة على أن الحائض لا تصوم في أيام حيضها، وأن صومها غير صحيح ولا معتد به، وأن عليها قضاء الصوم إذا طهرت"(61).
وما عدا هذه المفطرات الأربعة فإن الفقهاء رحمهم الله مختلفون فيها، ويرجع سبب خلافهم إلى اختلافهم في مسببات الفطر.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام نفيس حول هذه المسألة حيث يقول:
"وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة والجائفة، فهذا مما تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لم يفطر بالكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك.
والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك"(62).
وبعد هذا فإن الغواص الذي يغوص في الماء وكان لا يرتدي شيئاً من ملابس الغوص الواقية، فإن الماء حتماً سيدخل في بعض المنافذ المفتوحة كالأذنين والدبر والأنف ونحو ذلك، فإن هذا الأمر يعد مفسداً للصوم، وذلك لأن الماء دخل إلى جوفه سواءً من الحلق أو من غيره، ولأن الماء فيه خاصية الغذاء وهو مما يتغذى به الجسد ويستفيد منه، فلأجل ذلك يكون الغوص للصائم بهذه الطريقة مفسداً للصوم – والله أعلم –.
المسألة الثامنة: حكم استنشاق دخان الآلات العسكرية والغبار للجندي الصائم:
يتعرض الجندي أثناء أداء عمله وهو صائم سواءً في ميدان المعركة أو في غيره من الأحوال العادية إلى ما يصدر من الآلات العسكرية من عادم(دخان)، وكذا إلى غبار الطريق من جراء سيرها، فهل مثل هذه الأمور لها تأثير على الصيام؟.
اتفق جمهور الفقهاء رحمهم الله على أن غبار الطريق والدخان ونحو ذلك لا يفسد الصوم،"لأن التحرز منه لا يدخل تحت الوسع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها"(63).
فقال الكاساني رحمه الله وهو من فقهاء الحنفية:"ولو دخل الغبار أو الدخان أو الرائحة في حلقه لم يفطر لما قلنا [ أي لأنه لا يمكنه الاحتراز عنه]" (64).
وقال القرافي رحمه الله من المالكية:"وغبار الطريق لا يفطر لضرورة الملابسة"(65)، وقال الدسوقي رحمه الله في مسألة الدخان:"وأما الدخان الذي لا يحصل به غذاء للجوف كدخان الحطب فإنه لا قضاء في وصوله للحلق، ولو تعمد استنشاقه لأنه لا يحصل للدماغ به قوة كالتي تحصل له من الأكل"(66).
وقال الحجاوي رحمه لله من فقهاء الحنابلة:"وإن دخل ذباب أو غبار طريق أو دقيق أو دخان من غير قصد... لم يفطر"(67).
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى معنى أوسع من ذلك في معرض حديثه عن الكحل للصائم فقال رحمه الله:"إن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي صلى الله عليه وسلمكما بين الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن، والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل إلى الدماغ وينعقد أجساماً، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دلَّ على جواز تطييبه وتبخيره وإدهانه، وكذلك اكتحاله"(68).
وقد سأل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله سؤالاً حول ما يتعرض له بعض العاملين في المصانع الحربية من أبخرة المكائن والدخان وبعض الروائح الكيماوية وبارود الرصاص ونحو ذلك، فأجاب: أن مثل هذا الأمر لا تأثير له على الصوم(69) .